كاشف
    المرصد الفلسطيني للتحقق والتربية الإعلامية – كاشف، منصة مستقلة تهدف إلى مكافحة المعلومات المضللة وتعزيز مبادئ أخلاقيات النشر.
    تواصل معنا
    واتسب: 00970566448448
    ايميل: info@kashif.ps
    عناويننا
    المكتب الرئيسي: فلسطين - نابلس - رفيديا - عمارة جودة - ط1.
    المكتب الفرعي: رام الله - المصيون - عمارة الطيراوي-ط1.

    تقرير: ميسرة فسيفس

    في غزة، لا يشترط أن تبدأ المأساة دوماً بقصف أو انفجار، بل إن الحرب في كثيرٍ من الأحيان تقدح شرارتها من انطفاء الخيارات أمام العاجزين عن مجاراة ضرباتها المتلاحقة.

    عبير فوجو، التي نزحت من رفح إلى خان يونس، تحمل معها هموم سبعة من أطفالها.. وحدها في مواجهة تقلبات الحياة بعد أن تخلى عنها زوجها منذ سنوات، لتخوض مواجهة مع حرب لا تمنحها وقتاً للحزن.. ولا مساحة للنجاة.

    وفي محاولات التعايش مع الأوضاع الصعبة التي فرضتها عليها تجربة النزوح المريرة، وفي ظل انعدام الدخل وانقطاع المساعدات، وقصف الاحتلال لتكيات الطعام التي كانت تمدها بالقليل لسد جوع أطفالها، لجأت لجمع فتات الخبز الناشف من بقايا طعام الجيران، لتطهو لأطفالها حساء العدس على نار مخلفات طبية تجمعها من مكب بجوار مستشفى ميداني قريب.

    وعن تجاهلها لمخاطر العبث بالنفايات الطبية تقول فوجو: “لا يوجد أمامي خيار آخر، أطفالي جياع ويجب علي إطعامهم، التكية توقفت عن العمل منذ شهور طويلة نتيجة نقص السلع الغذائية وغلاء الأسعار، والاحتلال يمنع مرور المساعدات وغاز الطهي، وأنا لا أملك ما يكفي لشراء الحطب”.

    لكن الحرب لا تكتفي بتجويع الأمهات، بل تحرق فؤادهن بما هو أشد وأفظع.. خسارة الأبناء.

    كان شبح الموت ينتظر مرور ابنها الأكبر هيثم بجوار أحد البيوت، في اللحظة التي صبت بها طائرة إسرائيلية حممها المشتعلة تجاهه، لتجعله أثراً بعد عين، وكذلك الشاب الذي خرج يسعى لتأمين بعض الدقيق لأمه وأخوته.

    وأمام مرارة الفقد، لم تحصل فوجو على فرصة لالتقاط نفسها واستجماع قواها حتى عاد الموت يطاردها مجدداً، وهذه المرة بهجوم طائرة مسيرة على المخيم الذي نزحت إليه في منطقة قيزان أبو رشوان جنوب خان يونس، ويصاب ابنها الثاني، سعد، برصاصة في الكبد أرقدته على سرير المستشفى.

    وبين هذا وذاك، والتزامها المرهق تجاه أطفالها الجياع، جمعت شتات نفسها وأقامت بجوار ابنها تتابع علاجه المنتظر في ظل انهيار المنظومة الطبية في غزة، وعلى عاتقها عبء مضاعف في توفير قوت نجلها المصاب وأخوته الذين نهش الجوع أجسادهم، كل ذلك تحت وطأة الخوف والإفلاس، بعد أن خسرت كل متعلقاتها أثناء الفرار.

    وحين بدأ سعد بالتعافي، وصله خبر استشهاد اثنين من أبناء عمه على مشارف مدينة رفح المدمرة، بعد أن تُركت جثثهم في المكان دون أن يتمكن أحد من انتشالهم، وبفطرته الإنسانية وألمه على بقاء رفاتهم عرضة لنهش الحيوانات الضالة، خرج سعد دون أن يخبر والدته بنيته الذهاب إلى هناك ودفنهم، وادعى أنه ذاهب للجلوس على شاطئ البحر وسيعود سريعاً.. لكنه لم يعد.

    ومع اختفاء سعد، بدأت قصة جديدة من المعاناة مع وصول خبر استشهاده خلال محاولته انتشال جثامين أبناء عمه الشهداء، وبانعدام القدرة حتى على الوصول إلى جثمانه أو إيجاد أي أثر على انتشاله من هناك، قبل أن يشير عليها أحد العاملين في مستشفى ناصر خلال نوبات بحثها وسؤالها المستمر للتوجه إلى الإرشيف، حيث قيل لها إن مسعفاً استطاع الوصول إلى موقع الاستشهاد، وانتشل جثث دفنت في قبر جماعي، واحتفظوا ببقايا ملابسهم للاستدلال عليهم.

    وهناك، وجدت قطعة تعرفها جيداً من ملابس ابنها المفقود، لكن الصدمة كانت في العجز عن تحديد مكان القبر الذي دُفن فيه سعد، فالقبور الجماعية كثيرة، والدفن كان سريعاً، والظروف لم تسمح بالتوثيق.

    تقول فوجو: “أردت فقط أن أحتضن عظامه، أن أعرف أين دُفن، أن أقول له ما لم أستطع قوله حين خرج”.

    في حرب غزة، تحول كل ما هو استثنائي إلى حالة عامة يشترك فيها الجميع، في جريمة إبادة تعيش فيها النساء فصولاً متلونة من المعاناة، وتتجرع صنوف شتى من عذابات الفقد والقهر والعجز عن إعالة أبنائهن، بعد أن انتزعت الحرب منهن السند، والبيت، وحتى القبر.

    رابط المقالة المختصر: https://kashif.ps/vrt9
    شاركها.
    Chat Icon