خلال العقدين الماضيين، لم تهدأ الحروب على قطاع غزة الذي فرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا عليه في تشرين الأول 2007، ليشن بعدها سلسلة حروب على القطاع، كان أبرزها أعوام 2007 و2012 و2014 و2019 و2021 و2022.
ولكن عدوان الاحتلال الحالي والمستمر على قطاع غزة كان الأطول والأعنف، ووصف من قبل منظمات حقوقية ودولية وخبراء في القانون الدولي بالإبادة الجماعية. بالمقابل، أنكر مسؤولون في دولة الاحتلال الإسرائيلي وخبراء ومسؤولين دوليين من ضمنهم الرئيس الأمريكي جو بايدن وجود الإبادة. وأصبح اتهام الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة نقاشًا في الإعلام الدولي وبين الخبراء والقانونيين، كما حدث في برنامج “Piers Morgan Uncensored” الذي يقدمه المذيع البريطاني بيرس مورغان.
في اليوم الدولي لإحياء وتكريم ضحايا جرائم الإبادة الجماعية ومنع هذه الجريمة في التاسع من كانون الأول يوضح مرصد كاشف الواقع الحالي لقطاع غزة ومعنى الإبادة في القانون الدولي.
أولًا: ما هو واقع غزة بعد 430 يومًا من العدوان؟
- استشهد 44580 شخصًا وأصيب 105750 آخرين إلى جانب نحو 10 آلاف من المفقودين وفقًا لآخر تحديث صدر عن وزارة الصحة الفلسطينية بتاريخ 5.12.2024.
- 1.6 مليون شخص يعيشون في مراكز الإيواء المؤقتة، نحو نصف مليون منهم يقيمون في مناطق معرضة لمخاطر الفيضانات، واستهدف 211 مركزًا للإيواء.
- هُجر قسرًا نحو 85% من سكان قطاع غزة أي حوالي 1.93 مليون شخص.
- 1410 عائلات فلسطينية مُسحت من السجل المدني بقتل الأب والأم وجميع أفراد الأسرة، وبلغ عدد أفراد هذه العائلات 5444 شهيدًا.
- دمر الاحتلال 480 مدرسة وجامعة بشكل كلي وجزئي، وحُرم 785 ألف طالب وطالبة من التعليم.
- دمر الاحتلال 353500 وحدة سكنية بشكل كلي وجزئي. 83 ألف وحدة سكنية دمرها الاحتلال غير صالحة للسكن.
- المستشفيات: 17 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى في غزة تعمل بطاقة، وجميعها تعمل جزئيًا، وتواجه نقصًا حادًا.
ثانيًا: ما المقصود بالإبادة الجماعية؟
تعني الإبادة الجماعية وفقًا للمادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها أياً من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي، أو الجزئي لجماعة قومية، أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: قتل أعضاء من الجماعة، إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، وفرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، وكذلك نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
ليس فعل الإبادة الجماعية وحده هو من يُعاقب عليه بل يمتد إلى أفعال أخرى، هي: التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية، الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ثالثًا: نية الإبادة
أطلق كل من موقع “Visualizing Palestine” و”Law for Palestine” قاعدة بيانات تضمنت 422 مدخلًا حول نية الإبادة الجماعية ذكرتها جهات من الاحتلال كالقوات المسلحة وصناع القرار والشخصيات العامة وغيرهم. من ضمن هذه المدخلات – مثلًا – تصريح وزير جيش الاحتلال السابق يوآف غالانت في التاسع من تشرين الأول 2023 الذي جاء على النحو التالي: “لقد أمرت بحصار شامل لقطاع غزة، لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، كل شيء مغلق”. “نحن نحارب الحيوانات البشرية ونتصرف وفقًا لذلك”.
الوزير السابق في مجلس الحرب بيني غانتس فقد صرح بتاريخ 29.11.2023 أن “القتال سيستمر وسيمتد إلى أي مكان ضروري في قطاع غزة. لن تكون هناك مدن آمنة”.
ومن بين تصريحات نية الإبادة الجماعية تصريح رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بتاريخ 24.12.2024 الذي جاء فيه: “نحن نواجه وحوشًا، وحوشًا تقتل الأطفال أمام أعين والديهم… هذه ليست معركة إسرائيل ضد هؤلاء البرابرة فحسب، بل إنها معركة الحضارة ضد البربرية”.
إلى جانب ذلك، صرح الصحفي الإسرائيلي شيمون ريكلين في السابع من تشرين الأول 2023 أنه “يجب أن تُمحى غزة عن وجه الأرض”.
أما عضو الكنيست الإسرائيلي السابق موشيه فيجلين فقد قال في 16.1.2024: “كما قال هتلر: لا أستطيع أن أعيش إذا بقي يهودي واحد، ونحن لا نستطيع أن نعيش هنا إذا بقي “نازيون إسلاميون” واحد في غزة”. “اليهود ليسوا ضيوفاً في أرضنا، إنها ملكنا بالكامل”، “حوّلوا غزة إلى مدينة عبرية”.
كما وصرحت رئيسة بلدية مستوطنة كدوميم السابقة وزعيمة حركة استيطانية دانييلا فايس بتاريخ 22.9.2024 أن “الهدف من التحركات الاستيطانية هو الاقتراب قدر الإمكان من غزة، ورؤية غزة بشكل كامل، وفهم أنه من الآن فصاعدا، ستكون غزة يهودية بالكامل”.
رابعًا: جنوب إفريقيا تتهم الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية
كانت جنوب إفريقيا قد رفعت في 29 كانون الأول 2023 دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية ضد دولة الاحتلال تتهمها فيها بارتكاب إبادة جماعية في غزة. ووفقًا لتقرير نشرته الأمم المتحدة بتاريخ 30.10.2024 فقد أعلنت 14 دولة عن نيتها التدخل في سياق شكوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية منها 3 دول أوروبية، هي: إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا.
في حين أعلنت ألمانيا بتاريخ 12.1.2024 التدخل في قضية محكمة العدل الدولية لدعم دولة الاحتلال، وقالت الحكومة الألمانية في بيان إنها “ترفض بشدة وبصراحة اتهامات الإبادة الموجهة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. وهذا الاتهام لا أساس له من الصحة”.
خامسًا: تصريحات تتهم الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية
في تقرير صدر عن منظمة العفو الدولية بتاريخ 5.12.2024 يحمل عنوان (“بتحس إنك مش بني آدم”: الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة) أكدت خلاله المنظمة أن “بحوثها وجدت أدلة وافية تثبت أن إسرائيل قد ارتكبت، ولا تزال ترتكب، جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحتل”.
وقالت أنياس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية: “يثبت تقرير منظمة العفو الدولية بوضوح أن إسرائيل ارتكبت أفعالًا تحظرها اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بقصد خاص ومحدد وهو تدمير الفلسطينيين في قطاع غزة. وتشمل هذه الأفعال قتل الفلسطينيين في قطاع غزّة، وإلحاق أذى بدني أو نفسي بهم، وإخضاعهم عمدًا لظروف معيشية يراد بها تدميرهم المادي. على مدى شهور، ظلت إسرائيل تعامل الفلسطينيين وكأنهم فئة دون البشر لا يستحقون حقوقًا إنسانية ولا كرامة، وأظهرت أن قصدها هو تدميرهم المادي”.
وأضافت أنياس كالامار: “يجب أن تكون نتائجنا الدامغة بمثابة صيحة تنبيه للمجتمع الدولي: هذه إبادة جماعية، ولا بد أن تتوقف الآن”.
بينما وصفت فرانشيسكا ألبانيز الخبيرة الأممية المستقلة ما يحدث بقطاع غزة “الإبادة الجماعية” وأوضحت أنها “مأساة معلنة قد يتسع نطاقها لتشمل فلسطينيين آخرين تحت الحكم الإسرائيلي. وإن المضي قدمًا في تحقيق الهدف المتمثل في “إسرائيل الكبرى” يهدد بمحو السكان الفلسطينيين الأصليين”.
ودعت ألبانيز إلى الاعتراف رسميا بدولة الاحتلال “كدولة فصل عنصري ممعنة في انتهاك القانون الدولي”.
أصر الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في شباط 2024 على أن دولة الاحتلال ترتكب “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين في غزة حيث قال: “ما تفعله دولة إسرائيل ليس حربًا، إنها إبادة جماعية، لأنها تقتل نساء وأطفالًا”.
وقال البابا فرنسيس في تشرين الثاني 2024 إن بعض الخبراء الدوليين يقولون “إن ما يحدث في غزة فيه خصائص الإبادة الجماعية”، مضيفًا “يجب أن نحقق بعناية لتقييم ما إذا كان هذا يتناسب مع التعريف الفني ’للإبادة الجماعية‘ الذي صاغه خبراء القانون والمنظمات الدولية”.
في حين قال وزير جيش الاحتلال السابق موشيه يعلون في كانون الأول 2024 إن الجيش يقوم بـ”تطهير عرقي” و”تهجير الفلسطينيين” من قطاع غزة.
أما منظمة “هيومن رايتس ووتش” قالت في تقرير أصدرته في تشرين الثاني 2024 إن السلطات الاحتلال تسببت في النزوح القسري الجماعي والمتعمد للمدنيين الفلسطينيين في غزة منذ تشرين الأول 2023، وهي مسؤولة عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي تقرير صدر عن اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة، أن الحرب التي يشنها الاحتلال في غزة “تتسق مع خصائص الإبادة الجماعية”، وقالت إن “إسرائيل تتسبب عمداً في الموت والجوع والإصابات الخطيرة، واستخدام الجوع كوسيلة للحرب وإلحاق العقاب الجماعي بالسكان الفلسطينيين”.
سادسًا: تصريحات تنفي وجود الابادة
من بين الشخصيات الرسمية التي نفت وجود إبادة جماعية في غزة، هو وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي في تشرين الأول 2024 الذي اعتبر أن المصطلحات مثل الإبادة الجماعية “استخدمت على نطاق واسع عندما فقد الملايين من الناس حياتهم في أزمات مثل رواندا، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، والطريقة التي تستخدم بها الآن تقوض جدية هذا المصطلح”.
يأتي ذلك في أعقاب جلسة في البرلمان البريطاني، حث فيها النائب المحافظ المعارض نيك تيموثي لامي على توضيح أنه “لا توجد إبادة جماعية تحدث في الشرق الأوسط”، مضيفًا أن “المصطلحات مثل الإبادة الجماعية” في إشارة إلى غزة “غير مناسبة ويكررها المحتجون ومخالفو القانون” على حد قوله.
وفي تشرين الثاني 2024 رفض رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر وصف الأحداث في غزة بالإبادة الجماعية، قائلًا: أمام مجلس العموم: “أنا على دراية تامة بتعريف الإبادة الجماعية، ولهذا السبب لم أصف الوضع في غزة بأنه إبادة جماعية”.
كما وقال نائب المدعي العام الإسرائيلي للقانون الدولي، جلعاد نعوم، أيار 2024، إن الصورة التي رسمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية للوضع في غزة “منفصلة تماما عن الحقائق”، مضيفًا أن الحرب في القطاع “مثل كل الحروب، مأساوية وفظيعة بالنسبة للإسرائيليين والفلسطينيين، وقد فرضت ثمنا إنسانيا باهظا، لكنها ليست إبادة جماعية”.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن في أيار 2024 خلال فعالية “شهر التراث اليهودي الأمريكي” في البيت الأبيض إن “ما يحدث في غزة ليس إبادة جماعية. نحن نرفض ذلك”.
ونفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية، سيباستيان فيشر، في تشرين الأول 2024 وجود أي علامات على ارتكاب دولة الاحتلال إبادة جماعية في غزة، مؤكدًا أن موقف ألمانيا لم يتغير بشأن دعمها، ومشددًا على الالتزام بأمنها.
بينما قالت وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك، في تشرين الأول 2024، إن حق الدفاع عن النفس “لا يعني مهاجمة الإرهابيين بل تدميرهم”، وأضافت: “عندما يختبئ عناصر حماس بين الناس وخلف المدارس، فإن الأماكن المدنية تفقد وضع الحماية لأن الإرهابيين ينتهكونها” على حد تعبيرها.
سابعًا: الإبادة الرقمية
تزامنت الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بحق أهالي قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول 2023 مع انتهاكات رقمية واعتداءات ممنهجة ضد الشعب الفلسطيني في الفضاء الرقمي عبر عنها مركز صدى سوشال بمصطلح “الإبادة الرقمية” في تقرير شمل رصد هذه الانتهاكات منذ السابع من تشرين الأول 2023 حتى السابع من تشرين الثاني 2024.
أظهرت نتائج التقرير أن المحتوى الفلسطيني تعرض لأكثر من 23 ألف انتهاك رقمي، وحُظر أكثر من 700 رقم واتساب فلسطيني، واستهدفت 29% من مجمل الانتهاكات الرقمية الصحفيين والصحفيات والمؤسسات الإعلامية.
ووثق تقرير صدى سوشال أكثر من 80 ألف منشور تحريضي إسرائيلي عبر منصات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك دعوات للإبادة الجماعية، وتبرير العنف والقتل الجماعي بحق الفلسطينيين.