تقرير: حلا عيد
من داخل خيمة والده يجلس أحمد المصري نجل الصحفي الراحل حسام وعيناه مليئتان
بالدموع يحدثني عن والده.
يقول أحمد: كان والدي يحب عمله وكان مجتهدا فيه، تربى والدي على حب التصوير منذ الخامسة عشر
حيث حمل الكاميرا على أكتافه وانطلق يوثق بعدسته كل ما هو حوله، كَبر والدي وكبر حلمه معه، بدأ يعمل مع تلفزيون فلسطين منذ عمر التاسع عشر وأثبت جدارته وتميزه يوما بعد
يوم في إخراج الأخبار والتصوير، تعلق أبي بمهنته بشكل كبير، كنا نقول له خذ قسطاً من الراحة ليوم واحد ولكن كان يرفض.
لم يكن حسام مجرد صحفي ناقل للأحداث بالشكل التقليدي، بل كان يخاطر بنفسه وبروحه من أجل توثيق مجريات الحرب في غزة، فكان شاهدا على مجازر الاحتلال بحق شعبه وساهم في نقل صوت الغزيين تحت الحرب إلى العالم.

يقول ابنه أحمد: والدي شديد التعلق بكاميرته وأغراضه كان يخاف على كاميرته ومعدات تصويره أكثر من
خوفه على نفسه، منذ بداية الحرب وهو على رأس عمله، فمنذ عامين لم نشاهده إلا مرات قليلة وما إن كان يجلس معنا يرن هاتفه لعمل طارئ فيقوم مسرعاً ويترك كل شيء في
يده ويتوجه لعمله فوراً.
لم يتوان والدي لحظة واحدة عن نقل الحقيقة حتى أنه كان يعمل على حساب نفسه وصحته
يتابع: والدتي كانت كثيرا ما تطلب منه أن يرتاح لكي نجلس معه يوما واحدا على الأقل لكنه كان
يرفض ويقول: (أنا بشتغل وبتعب عشان أوصل الرسالة أولاً وعشان أوفر الكم حياة كريمة).
كان والدي دائما يلبي احتياجاتنا على أكمل وجه، حياته كانت بيننا وبين عمله من جهة يثابر من أجل عمله ومن جهة أخرى يجاهد من أجلنا.
يقول أحمد: كنت رفيق والدي ودائما معه وبجواره منذ بداية الحرب وأنا معه علمني التصوير وكنت
أساعد في نصب الكاميرا والتجهيز للبث.
لم يكن والدي يخاف على نفسه، بل أفنى نفسه من أجل نقل الصوت والصورة، كنا نخاف
عليه كثيرا لكنه يطمئننا ويقول :(ما تخافوا أنا مأمنين على حياتي ومستحيل يصير لي شيء).
يضيف: والدي كان يحمل هماً كبيراً، هم عمله وهمنا وهم والدتي المريضة.
والدتي مريضة بمرض (الصدفية من النوع الرابع)
منذ بداية مرضها ووالدي لم يتركها لحظة واحدة ولم يتوان عن الاهتمام بها كان سنداً لها بعد الله، احتضن مرضها ولم يوفر جهده في البحث عن علاج لها من هنا وهناك، كان يحاول توفيره لها بكل السُبل الممكنة يذهب لجميع الأطباء طالبا مساعدتهم حتى أنه في آخر أيامه كان يبحث جاهداً عن طريق لإجلائها خارج القطاع لتتلقى العلاج حيث إن وضعها الصحي تدهور كثيراً.
ويوضح المصري: ليلة الاستهداف كنت نائما عند والدي في خيمته، قمت الساعة 6:30 صباحاً بنصب الكاميرا وتجهيزها للبث، ثم غادرت لشراء بعض الأغراض له وللبيت وكنت
سأنتهي وأعود له.
جاء أحد الجيران وأخبرني بأن المبنى الذي يصور منه والدي تم استهدافه ووالدي مصاب فذهبت مسرعاً للمكان وجدت المبنى مهدوم، عندما شاهدت المكان لم أستطيع الحديث من
أثر الصدمة، ذهبت مسرعا إلى خيمته لعلي أجده، وجدت أصدقائه يبكون سألتهم عن والدي أجابوني (أبوك الله يرحمه وهم يبكون).
تعرضت لصدمة أكبر عندما سمعت الخبر ولم أتمالك نفسي بقيت متجمدا في مكاني مدة
تتجاوز الخمس دقائق وأنا في حالة صدمة وانكار، ثم ذهبت للبحث عن والدي في قسم
الاستقبال بقيت أبحث عنه حتى وجدته في قسم العمليات قد فارق الحياة، منذ الضربة الأولى روحه فارقت جسده، الاستهداف كان بشكل مباشر للمكان الذي
كان يتواجد فيه ويصور منه.
أخذته لوالدتي وأختي للبيت لكي يودعنه وكانتا أيضا في حالة صدمة فلم نكون مستعدين
لفُراقه أبدا، أخوتي المسافرين تلقوا خبر استشهاد والدي من الإنترنت وحزنهم كان كبيرا،
حرمتهم المسافات من وداعه الأخير.
قدم والدي روحه في سبيل نقل الحقيقة كان يريد أن أصبح مثله أيقونة للحق وأنا الآن
استلمت أغراضه كاميراته ودرعه وخوذته لأكمل الطريق من بعده لأكتب الرسالة وأنشر
الصورة وأفضح جرائم المحتل.
اليوم تزداد المسؤولية على أكتافي ما بين رعاية والدتي في مرضها، والبحث عن علاج لها كما كان أبي يفعل، ومن جهة أخرى حمل كاميرا والدي وتوثيق الأحداث بها ونقل
الصورة للعالم.
من جهته يتحدث رأفت القدرة مدير تلفزيون فلسطين عن الاستهداف الذي طال مبنى الياسين في مستشفى ناصر الطبي والذي راح ضحيته خمسة من الصحافيين.
يقول القدرة: الصورة لا تحتاج إلى كلام، عندما تم استهداف حسام بالضربة الأولى هرع الصحافيين إلى
الطابق العلوي لإنقاذ الزملاء الذين أصيبوا، كانت الكاميرا في هذه الأثناء تنقل مباشرة.
ثم حدث استهداف آخر طال عدد من الطواقم الصحافية والدفاع المدني والطاقم الطبي تم استهدافهم بشكل مباشر دون أدنى مبرر، وإذا كان المحتل يدعي أن الإستهداف الأول كان للكاميرا المتواجدة على سطح مبنى في مستشفى ناصر فما هو مبرره بالإستهداف الثاني، استهداف الدرج الخارجي ومجموعة من الصحافيين والأطباء.
ارتقى في هذه المجزرة حوالي 20 شهيداً منهم خمسة من الصحافيين وعدداً من رجال الدفاع المدني والطاقم الطبي، حدثت
الجريمة على الهواء مباشرة أمام أعين العالم أجمع.
ويوضح: استهداف الزميل حسام المصري هو خسارة كبيرة للعمل الإعلامي، لكنه سيزيد من الإصرار
على مواصلة المسيرة لنمضي على طريق الشهداء ونكمل مسيرتهم نحو فضح هذا المحتل ونقل الصورة الحقيقية صورة الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من حرب إبادة وحرب تجويع وغيرها …
ويضيف القدرة: منذ اللحظة الأولى نحن نعلم أن الصحفي الفلسطيني مُستهدف وأن الاحتلال يحاول جاهداً إخماد صوته، رغم أن الصحفي لديه حصانة ولديه من التشريعات ما تمنع التعرض له لكن هذا المحتل لا يراعي المواثيق والتشريعات ولا الإنسانية ولا يكترث لأحد.
وبكل أسف ما ارتقى من شهداء خلال هذه الحرب من الأسرة الصحفية يفوق كل الحروب
حتى أنه يفوق الحرب العالمية الأولى والثانية، نتحدث عن أكثر من 246 شهيدا صحفياً خلال حرب الإبادة على غزة.
ويوجه القدرة رسالة للعالم أن يمارسوا دورهم الإنساني أولا بالضغط على حكومة الاحتلال
لوقف هذه المجازر التي تُرتكب ضد الصحفيين تحديداً، فهو يريد من ورائها عدم نقل الصورة والحقيقة لأن الإعلام أوجع هذا المحتل بنقله للحقيقة ونقله لصورة الجرائم التي ترتكب
يومياً ليل نهار ضد الشعب الفلسطيني.
لم يكن رحيل حسام المصري حدثاً عابراً، فبرحيله فقدت الساحة الإعلامية صوتاً كان يصدح
بالحق وينقل الواقع للعالم رغم العقبات.
كان المصري نموذجاً للصحفي القوي الذي لايخشى شيء عندما يتعلق الأمر بنقل الحقيقة، فقد قدم حياته ثمناً للحقيقة ولصوت الأبرياء، رحل حسام لكنه ترك خلفه بصمة لا تُنسى ،
وترك ابنه ليحمل الكاميرا من بعده ويُكمل رسالته.