كاشف
    المرصد الفلسطيني للتحقق والتربية الإعلامية – كاشف، منصة مستقلة تهدف إلى مكافحة المعلومات المضللة وتعزيز مبادئ أخلاقيات النشر.
    تواصل معنا
    واتسب: 00970566448448
    ايميل: info@kashif.ps
    عناويننا
    المكتب الرئيسي: فلسطين - نابلس - رفيديا - عمارة جودة - ط1.
    المكتب الفرعي: رام الله - المصيون - عمارة الطيراوي-ط1.

    تقرير: ملك فرحان

    “كان العيد على بعد ثلاثة أيام فقط، وكنت أنتظر حلوله بفارغ الصبر لأرتدي حلتي وأزين بالتوّك الجميلة شعري الطويل كأميرة من أميرات ديزني، لكن العاصفة كانت أقرب من موعد نضوج القمح، وبدلاً من أن أحزمه برباط شعري، حصدت رياح القصف سنابل رأسي”.

    في خيمة صغيرة على أطراف منطقة المواصي غربي خان يونس، تجلس الطفلة هلا دهليز، 12 عام، بلفافة بيضاء على رأسها، تتأمل صورتها الجديدة في مرآة مكسور طرفها، بعد أن سلخت الحرب عنها تاجها الأميري.

    كانت هلا تلعب على أرجوحة بالقرب من خيمتها، حين شنت طائرات الاحتلال غارة بالقرب منها هزت المكان بعنف، ومعها علق شعر الطفلة في الهيكل الحديدي الذي سلخ فروة رأسها وتركها تسقط فاقدة للوعي بسبب النزيف الحاد.

    يقول شكري دهليز، والد هلا: “سمعنا صوت الانفجار وارتعدت أطرافنا، فهرعت للخروج من الخيمة لأطمئن على من بالخارج، ووجدت أطفال الجيران يركضون تجاهي ويطلبون النجدة لطفلتي التي أصيبت نتيجة الضربة، ولا أذكر من ذلك الموقف سوى صورة هلا ورأسها النازف وشعرها العالق في الأرجوحة”.

    وتضيف هلا: “استيقظت وسط حلقة من الناس أحاطت سريري في المستشفى، أشعر بألم شديد في رأسي، حاولت لمسه لكنني لم أجد شعري، فأصابني الذعر وبدأت أسألهم (أين شعري..؟!!)، وكانت إجابتهم تعبيرات حسرة ودموع يحاولون حبسها دون أن يتجرأ أحدهم على الرد، ووسط إلحاحي الشديد أجابتني ابنة عمي أنه علق في الأرجوحة واضطروا قصه لإنقاذي.. فانفجرت بالبكاء”.

    • مضاعفات وعلاج مفقود

    في الأيام الثلاثة الأولى من إصابتها، وبعد أن حاول الأطباء إعادة قطب فروة رأسها التي علقت في هيكل الأرجوحة وخلّصها فريق الإسعاف الذي نقل الطفلة إلى المستشفى، بدأت التقرحات والالتهابات في غزو رأسها المتهتك، ليضطر الأطباء وأمام الحاجة لتقديم الحد الأدنى من العلاج إلى التخلص مما تبقى من شعرها، وعن ذلك يحكي والدها:

    “سرعان ما بدأت الالتهابات الشديدة والتقرحات بالظهور في فروة رأسها، وصاحبها سقوط ما بقي من شعرها بغزارة، ووسط حاجة الأطباء للتخلص من بقايا شعرها بما يمكنهم من كشف التقرحات ومحاولة التعامل الطبي معها، حاولت إقناعها بقص الخصل الباقية، لكنها رفضت بعناد، فاضطررت آسفاً على إجبارها على قصه لإنقاذ حياتها”.

    وأمام عجز الأطباء على علاجها بسبب إنعدام المقومات، رقدت هلا على سرير المستشفى مدة ثلاثة شهور متواصلة، نجح خلالها والدها، وبمساعدة الأطباء، من الحصول على نموذج تحويلة طبية لعلاجها بالخارج، لكن ذلك لم يغير من الوضع شيئاً، فالمعابر مغلقة وحالات الإجلاء الطبي متوقفة، وحال طفلته يسوء يوماً بعد يوم.

    حصار الأسئلة وعزلة تحت الإكراه

    منذ خروجها من المستشفى، تتجنب هلا الخروج من خيمتها أو الاختلاط بالآخرين، وتبرر بالقول: “كل من يراني يسألني عما أصاب شعري وسط نظرات الريبة والاشمئزاز، أجيبهم مرة فيكررون سؤالهم مرتين.. أحاول أن أخفي رأسي بارتداء قبعة وأضع فوقها قبعة سترتي زيادة في الاحتياط، لكن دون جدوى”.

    وبصوت خنقته حشرجة البكاء الذي شرعت به، أكملت: “في البداية حاولت التعايش مع الأمر، لكن في كل مرة كانت تظهر فيها لفافة رأسي البيضاء أرى الذعر ينتشر بين أطفال المخيم.. بعضهم يبالغ في تنمره رغم أنها ليست المرة الأولى التي يشاهدون فيها رأسي المصاب.. أشعر وقتها أن قلبي قد توقف من الحزن، وأعود للاختباء والبكاء”.

    ورغم إيمانها بأن ما حل بها ليس بإرادتها، إلا أن هلا تصر على التمسك بفكرة أنها فقدت جمالها بفقدان شعرها، ووسط تشنج بالبكاء تعود للشكوى من حصار الناس بسؤالهم “أين شعرك..؟!” وهرباً من هذا الحصار المستنزِف تتجه الطفلة لسجن نفسها في خيمتها ورفض الخروج، والاستسلام لنوبات البكاء المتكررة.

    • بين الذكرى الجميلة والواقع الموحش

    وبعد أن كفكفت دموعها واستجمعت قواها لبرهة تستكمل فيها الحديث، استذكرت هلا لحظات تحضيرات الذهاب للمدرسة قبل الحرب، حين كانت تقف أمام مرآتها لتسريح شعرها الجميل المنسدل على كتفيها، وفي لحظة شردت فيها عينها قالت: “لكن الان لم تعد هناك مدرسة، ولم يبقى لدي شعري الجميل”.. وتختم وسط تنهيد وبكاء: “أصبحت حياتي سوداء قاتمة”.

    وفي لحظة عادت فيها إلى أيام ما قبل إصابتها حينما كانت لا تزال تحتفظ بشعرها الجميل، أردفت: “كنت أخرج للعب مع صديقاتي أو حتى للتنزه بالجوار والهرب من حر الخيمة والحشرات التي تعشش فيها وكسر الملل بأي أنشطة متاحة في زمن الحرب الأسود، لكن الآن وبعد أن خسرت شعري خسرت كل هذه التفاصيل البسيطة”.

    وبحركة انفعال وسط البكاء اللامنقطع أشاحت الطفلة اللفافة الطبية عن رأسها لتكشف عن فروة محروقة وشبه مسلوخة وخالية من الشعر.. في مشهد مؤذٍ وموجع لكل من يتجرأ على النظر إلى إصابتها، عجزت فيه عن مواصلة حواري معها.

    أما والدها، فيحكي: “لا زالت هلا تحتفظ بخصلات شعرها التي قصها الأطباء في المستشفى، وترى فيهم أملها في العلاج واستعادة شعرها، في كل يوم تتأمل خصلها المفقودة وتبكي بحرقة، ويعز عليها نفسها حين ترى والدتها تسرح شعر إحدى شقيقاتها.. كل ذلك يدلل على مدى الأثر العميق الذي تركته إصابتها داخل نفسها”.

    اضطراب تشوُّه الجسد

    وتشير الدكتورة مي عطية، أخصائية في علم النفس، إلى الأعراض التي تظهر على الأشخاص الذين يتعرضون لحدث صادم، كالإصابة نتيجة القصف، على غرار الانسحاب الاجتماعي والعزلة ونوبات البكاء الهستيري التي أصابت الطفلة هلا دهليز، تصنف على أنها أحد أشكال الاغتراب عن الذات، سيما وأنها مرتبطة بتغير في صورة الجسد؛ نتيجة هذه الإصابة.

    وتؤكد د. عطية أن هذه الآثار الناجمة عما يعرف “باضطراب تشوّه الجسد” يمكن أن تتضاعف إلى مشكلات، أبرزها: صعوبة تقبُّل الذات وظهور نوع من الرفض لها؛ مما يجعل هذا النوع من الاضطراب من أصعب الأنواع التي يمكن التعامل معها، خاصة في حالة شعور المصاب بالإحباط؛ نتيجة عدم قدرته على الخضوع للعلاج المناسب، بشكل يمكن أن يدفعه إلى محاولة الانتحار وإنهاء حياتها.

    وتشدد على المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق أسرة الطفلة ومحيطها في تقديم الدعم اللازم، سيما في حمايتها من التعرض للعنف اللفظي أو التنمر الجسدي، في ظل الحساسية المفرطة التي تظهر على مصاب اضطراب تشوُّه الجسد تجاه نظرات الآخرين تحديداً، سواء كانت نظرة شفقة وعطف أو اشمئزاز.

     وتشرح د. عطية أن علاج هذه الحالات يجب أن يكون بالتزامن بين العلاج الجسدي والنفسي، بما يساعدها على بناء آليات تأقلم وتكيُّف تتقبل خلالها جسدها بصورته الجديدة، وتمكينها من التصرف السليم للدفاع عن نفسها وتقليل فرص تعرضها لانتكاسة نفسية حال تعرضت لموقف جارح، بما يفضي إلى بناء وتعزيز الثقة بالنفس حتى تتمكن من ممارسة حياتها بشكل طبيعي.

    زراعة الأمل

    تتخيل هلا شعورها حال تم علاجها وإعادة زرع شعر لها بابتهاج يغطي ملامح الحزن على وجهها المنهك بنوبات البكاء، وتقول: “سأكون في قمة السعادة وسأعود للعب مع صديقاتي بعد أن حرمتني إصابتي من الخروج من باب الخيمة”.

    وتابعت: “أنا لا أطلب سوى الخروج للعلاج واستعادة شعري، هذا حقي الطبيعي كطفلة لا ذنب لي بالحرب، أريد استعادة مظهري الجميل وقدرتي على مقابلة الناس دون أن ألقى نظرات الريبة والشفقة والاشمئزاز، إن والدي يحاول ولكن لا يلقى استجابة من أي مؤسسة”.

    وتختم هلا حديثها بالإجابة عن استفساري حول أول ما ستقوم به بعد استعادة شعرها الجميل، لترد: “سأقوم بربطه بالتوّك التي اشتريتها، وألبس معها حلة العيد، وأخرج به على صديقاتي لأعود لمشاركتهم اللعب كما السابق”.

    رابط المقالة المختصر: https://kashif.ps/u5p8
    شاركها.
    Chat Icon