تقرير: سحر مهدي
منذ ما يقارب العامين، تتعرض غزة لحرب إبادة خلفت عشرات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين، ودمرت البنية التحتية والمنازل والمستشفيات والمدارس. حرب لم تترك شيئًا دون أن تقتله أو تدمره أو تحاصره. ومع كل هذا، لتغيير الواقع الدموي والمستقبل الغامض في غزة، لم تعد الحرب تهدد فقط حياة الناس، بل باتت تهدد شعورهم بالانتماء. وأمام تكرار مشاهد فقدان الأمان، وانعدام الأفق، والخوف من الموت أو التهجير القسري، ازدادت رغبة الشباب وحتى العائلات في الهجرة كخلاص فردي، لا كخيانة جماعية.
المشهد العام: إلى أين نذهب؟
الاحتلال لا يخفي نواياه، التصريحات الإسرائيلية خلال الحرب تؤكد أن ما يجري في غزة ليس مجرد “حرب على حماس” كما يُروّج، بل هو مخطط طويل الأمد يستهدف بنية الحياة في القطاع، ويدفع السكان، خاصة الشباب، نحو خيار واحد: الرحيل.
استمرار الحرب، السيطرة على المعابر، تعقيد المساعدات الإنسانية، رفض إعادة الإعمار، وعدم وضوح أي مستقبل سياسي أو اقتصادي، كلها أدوات ممنهجة لدفع الناس نحو فقدان الانتماء، وإدخالهم في حالة من التوهان الجماعي.
في مقابلة مع عدة شباب حول رأيهم من الهجرة بسبب الواقع الذي فرضه الاحتلال كانت الآراء كتالي: مريم (23 عامًا – خريجة صحافة، تقول: نعم، بكل وضوح. الهجرة أصبحت الحل الوحيد للنجاة، كل شيء في غزة ينهار الصحة، التعليم، الأمان، ما ضل شي نبني عليه أحلام.”
الشاب حسام (28 عامًا ) وهو يعمل في متجر صغير: قبل الحرب كنت أقول مستحيل أترك كان عندي متجر وبيت بس بعد ما فقدت بيتي ومصدر رزقي و شفت عيلتي تموت قدامي؟ صرت بدور على أي طريقة أطلع فيها.
الشاب فارس عبد الجواد، يقول: فقدت بيتي وعملي وحياتي كلها تغيرت، رغم كل شيء أحاول أن أصمد وأن أبقى في غزة، ومن المستحيل أن أتخلى عن وطني وعن هويتي الفلسطينية.
فارس حاله كحال نرمين الهندي”٢٤عاماً” تعمل صيدلانية، قالت: “لولا أني فقدت بيتي وفقدت صيدلتي لما تركت البيت واضطررت أن أنزح، حتى قطتي لم أتركها خلفي فكيف سأترك بلدي، متابعة: غزة حبها في دمنا ونتمنى ان تعود وتتعمر ونرجع نبني بيوتنا، وارجع افتح صيدليتي وأعمل بها “.
أما الناشطة المجتمعية والنسوية صابرين عفانة، تقول: “لم نعد نحلم بمستقبل هنا، لأن كل شيء من حولنا يُسرق منا، من الأمان إلى أبسط حقوقنا، فقدنا شعور الانتماء لأن الوطن لم يعد يحتوينا، والرغبة بالهجرة لم تعد مجرد فكرة بل صارت ملجأ نفسياً نهرب إليه في ظل واقع لا يمنحنا سوى الإحباط، كشباب، نحن لا نبحث عن رفاهية، بل عن حياة نستحق أن نعيشها بكرامة.”
تفتح شهادات الشباب الباب أمام تساؤلات عميقة حول معنى الصمود في ظل واقع قهري تفرضه آلة الحرب، فالهجرة، كما يتحدث عنها هؤلاء، لم تعد مرتبطة بتطلعات شخصية أو فرص اقتصادية، بل هي البحث عن فرصة للنجاة، وسط كل الخطر الذي يعيشونه والقصف المستمر، ووسط فقدان الأمن والمأوى والعمل، يشعر كثيرون أن البقاء لم يعد خيارًا ممكنا، وأن الوطن الذي كان ملاذًا بات مساحة مغلقة على الألم، هذه التحولات تفضح الأثر العميق للسياسات الإسرائيلية الهادفة إلى دفع الفلسطينيين نحو التهجير الطوعي، ضمن مخطط أشمل لتفريغ غزة من سكانها وقصّ شريانها الحيوي: شبابها.
وهذا ما أشار إليه، مدير جمعية شباب غزة، محمد أبو رجيلة، في لقاء معه قال: الشباب هم أكثر فئات المجتمع تضررًا في هذه الحرب، كثير منهم خسر وظيفته، وتعليمه، وفرصًا كثيرة للنجاح والعمل سواء داخل البلد أو خارجها. الوقت يضيع من عمرهم بلا أي أفق واضح. اليوم، أكثر ما يشغل تفكيرهم هو الهجرة، حتى من دون وجود فرصة واضح، المهم أن يهاجروا أولًا، ثم يبحثوا عن طريق، وهذا مؤشر خطير جدًا على تفاقم الأزمة، خاصة وأن الوضع ما زال يزداد سوءًا.”
في مقابلة مع الأستاذ عبد الله شرشرة، مدير مؤسسة أجيال، يقول: الشباب هنا في غزة، يشعرون أنهم عالقون في واقع خانق لا يمنحهم الأمل ولا يترك لهم خيارًا. وسط هذا اليأس، باتت الهجرة تُرى كطوق نجاة لا كخيانة للهوية أو الوطن.
تشير معطيات غير رسمية إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد المسجلين على قوائم المغادرة، سواء عبر معبر رفح أو بمراسلة السفارات، كما توضح دراسات سابقة أن نِسَب الرغبة في الهجرة كانت مرتفعة حتى قبل الحرب، نتيجة الحصار والانقسام وغياب فرص العمل.
لكن الحرب الأخيرة أدخلت عناصر جديدة أكثر قسوة: فقدان المنازل، فقدان الأهل، الخوف من الموت في كل لحظة، وعدم اليقين الكامل بشأن ما ينتظر غزة سياسيًا أو إنسانيًا.
من الضروري الإشارة إلى أن ما يدفع الشباب للتفكير بالهجرة هو السياسات الاحتلالية المتعمدة، التي صنعت واقعًا خانقًا يهدف إلى دفع الناس نحو الهروب، والابتعاد، والتخلي، لكن رغم كل ذلك لا يزال هناك من يتمسك بالبقاء، من يرى في هذه الأرض امتدادًا لهويته، ومن يرفض أن يكون تهجير العقول هو الثمن الذي يدفعه الفلسطيني لمجرد أنه اختار الحياة.
كلنا أمل أن تتكاثف الجهود لإنهاء حرب الإبادة ولإعادة إعمار غزة، وأن نعود لنزرع فيها الحياة من جديد.