كاشف
    المرصد الفلسطيني للتحقق والتربية الإعلامية – كاشف، منصة مستقلة تهدف إلى مكافحة المعلومات المضللة وتعزيز مبادئ أخلاقيات النشر.
    تواصل معنا
    واتسب: 00970566448448
    ايميل: info@kashif.ps
    عناويننا
    المكتب الرئيسي: فلسطين - نابلس - رفيديا - عمارة جودة - ط1.
    المكتب الفرعي: رام الله - المصيون - عمارة الطيراوي-ط1.

    خان يونس- لميس الأسطل

    في زاوية خيمتها المتواضعة في مواصي محافظة خان يونس جنوبي قطاع غزة، تجلس المسنة فاطمة خلف الله كشجرة زيتون عتيقة تتغلغل جذورها داخل تراب وطنها فلسطين، حيث ولدت قبل أن تنشأ دولة الاحتلال نفسها، تنظر بعينيها الغائرتين داخل وجهها المجعد الذي يعكس عمرها الذي يزيد عن مائة عام، فقد كانتا ولا زالتا شاهدتين حيتين على تاريخ عتيق لفلسطين، فتحكي خلالهما ذكريات حنين واشتياق لأرض سلبها الاحتلال عنوةً دون رحمة وشفقة.

    تقول خلف الله بصوتها المرتعش الدافئ: “عائلتي تمتلك أراضٍ كثيرة في مدينة بئر السبع جنوبي فلسطين، مُوثَّقةً ب”قواشين” أي أوراق “طابو” تثبت ملكيتها لنا، فقد كنا نزرع ترابها بالقمح والشعير والذرة، ونحصدها بعد فترة زمنية، ونطحن الحصاد بطاحونة يدوية، ونربي الأغنام والأبقار والإبل وغيرها من مواشٍ إلى جوار ذلك، ونسكن عليها داخل بيوت “شعر” نصنعها من صوف أغنامنا بعد صبغه ونسجه، مثبتًا بقرناف “أغصان” أشجار النخيل، وإلى جوارنا يقطن أقرباؤنا من العائلة، ونزور بعضنا باستمرار دائم، لتسود أجواء الحب والدفء والسعادة والبساطة في ذلك الوقت”.

    وتضيف: “كل شخص متعلم من العائلة يدرس الأطفال الذكور في حلقات تعليمية، بحبر وريشة على الورق القديم، لكن الفتيات كنَّ يقمن بأعمال المنزل من إعداد الخبز واللبن والسمنة البلدية والكشك والطبخ على النار، إضافةً إلى أعمال الزراعة وتربية المواشي، جنبًا إلى جنب مع الفتيان”.

    وتستكمل خلف الله: “تزوجت ابن عمي وأنا في الرابعة عشرة من عمري، وارتديت الثوب الفلسطيني المطرز بالخيوط الملونة الجميلة الساحرة، جالسةً إلى جواره والكحل يزين عينيَّ والحنة منقوشة على يديَّ، وكنَّ النسوة ينشدن الأناشيد التراثية ويطلقن زغاريد الفرح والسعادة، ويقدم المعازيم شاة كهدية للزوجين، فيقوم أهل البيت بذبحها وإعداد الخبز والمرق واللحم كطعام غداء للجميع، ومن عاداتنا ترك العروسين لوحدهما على مدار ثلاثة أيام بعد الزواج، ومن ثم تزور العروس بيت أهلها”، مؤكدةً تقديمها ثوب زواجها إلى ابنتها؛ تخليدًا للهوية الفلسطينية وإنعاشًا لذاكرة الأجيال القادمة.

    وتتابع: “عام 1948 حلَّت النكبة على وطننا فلسطين، واقتحم الإسرائيليون بدباباتهم ورشاشاتهم  مديتنا، هادمين بيوتنا وسارقين مواشينا، وهددونا إما أن نرحل منها على الفور وإلا سيكون القتل مصيرنا؛ فما كان منا إلا أن نخرج بثيابنا دون أن نأخذ شيئًا إلى بلدة عبسان شرقي محافظة خان يونس، والدموع تنهمر على وجوهنا”.

    وتروي: “استقبلنا سكان عبسان برحابة صدر واسعة، شادِّين على أيدينا، مؤازرينا في محنتنا، فتركونا نبني بيوتًا لنا على أرضهم، ونزرع فيها لنعتاش ونحصل على قوت يومنا”، لافتةً إلى أنهم كانوا يذهبون إلى مدينتهم “بئر السبع”، عصرًا لزراعتها مع إحاطة الزرع بقصل القمح؛ لحمايتها من الرطوبة، مستغلين عدم تواجد قوات الاحتلال في ذلك التوقيت، أملًا في العودة القريبة إلى أرضهم.

    وتستأنف خلف الله: “التحق زوجي ذلك الوقت بجيش التحرير “منظمة التحرير الفلسطينية”، لمقاومة الاحتلال الذي سرق أرضنا وهجرنا منها، فكان يغيب عني فترات كبيرة، وكنت أنتظره وأولادي كل ليلة، داعيةً الله أن يحفظه بحفظه وأن يعينه على خدمة وطننا؛ علَّنا نعود إلى بئر السبع”، مشيرةً إلى أنهم حُرموا من العودة هناك حتى  يومنا هذا.

    وتذكر: “أدعو الله ألا أفارق الحياة دون الرجوع إلى موطني، فأنا لم ولن أنسَ هويتي الفلسطينية يومًا، ودومًا ما أحرص على الحديث لأبنائي وأحفادي عن ذكرياتنا في أرضنا، وكيف سلب الاحتلال كل ما نملك، باثةً روح الأمل والتفاؤل في نفوسهم، بأن العودة قادمة لا محالة”، مشيرةً إلى أنها قدمت إحدى ليراتها الذهبية العتيقة لزوجة ابنها، ليبقَ التراث الفلسطيني حاضرًا حتى لو سلَّمت روحها لبارئها يومًا.

    وتختتم خلف الله: “ليست فلسطين مجرد أرض عابرة، بل هي تاريخ عتيق سطَّر حروفه في الذاكرة منذ آلاف السنين، بأشجار الزيتون المعمرة التي تعانق جذورها أرواح أجدادنا الكنعانيين الذين تركوا لنا إرثًا مقدسًا يحاول الاحتلال طمسه بأي طريقة، دون أن يدري أن كل طفل يولد في رحابها يستنشق عبق عتاقتها وحضارتها ويحمل مفتاح عودة توارثه؛ كأنه شاهد قبر لبيت لا يزال حيًا؛ مؤمنًا بأحقيته المشروعة، وكل حجارة من حجارته تروي حكاية أصالة وعراقة ونضال وفداء قدمه الفلسطيني للدفاع عن أرضه”، مؤكدةً أن محاولات هذا الاحتلال ستبوء بالفشل وإن طال الزمان على ذلك.

    رابط المقالة المختصر: https://kashif.ps/he4i
    شاركها.
    Chat Icon