تقرير: عبلة العلمي
تجلس الطفلة مريم المجايدة، 11 عامًا، في إحدى زوايا الخيمة، حائرة تحاول فهم ما يجري من حولها، تقول بصوت مرتجف بعد أن أصبحت تعاني من قلة النوم ونوبات الهلع: “في كل مرة أفتح الجوال، بيحكوا أشياء ما بعرف إذا صح أو غلط… بيقولوا وقف إطلاق نار، بس برة في صوت قصف… ليش بيكذبوا علينا؟”. والدتها تؤكد أن مريم أصبحت مشوشة، غير قادرة على التمييز بين الحقيقة والشائعة، او تصديق أي شيء تسمعه.
مريم تعاني من آلام في الرأس، اضطرابات في الأكل، وبكاء ليلي مستمر، وفوق ذلك، فقدت ثقتها بالمحيط وتشعر بتهميش دائم، كما أنها تظل تردد الأخبار التي تسمعها باعتبارها تهديد محد قد يصيبها في أي وقت.
هذه المضاعفات لا تعيشها مريم وحدها، فغالبية الأطفال في غزة، ممن يتابعون الأخبار والإعلان المتكرر عن أن وقف الحرب بات وشيكا والمساعدات أصبحت تدخل بانتظام وانتهاء المجاعة بات وشيكا، يدركون أن هناك تضليلا إعلاميا كبيرا بحق الواقع المعاش في غزة.
فلا الحرب أوشكت على الانتهاء ولا المساعدات منتظمة في الدخول إلى غزة، ولكن حجم الآثار النفسية التي يتركها التضليل في نشر الأخبار على هؤلاء الأطفال أكبر من المتوقع، فهذا التضليل لا يُشوّه الحقيقة فحسب، بل يخترق وعي الطفل الغزّي، ويخلق ارتباكًا داخليًا ينذر باضطرابات عميقة.
التقارير المحلية والمقابلات مع الأسر في غزة تكشف عن أن العديد من الأطفال أصبحوا يعانون من سلوكيات مضطربة، أبرزها الانعزال، الكوابيس الليلية، التبول اللاإرادي، والتكتم على الأحداث التي يشهدونها، في مخيم خانيونس، قالت أم العبد، وهي أم لأربعة أطفال: “طفلي صاحب العشر سنوات يسألني: لماذا العالم لا يرانا؟ الصور التي يشاهدها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أحيانا والبعيدة كل البعد عن الواقع، تجعله يشعر بأنه غير مرئي، وكأن آلامه غير موجودة”.
في إحدى مدارس غزة، التي لا تزال تحاول الصمود وتقديم بعض الحصص المدرسية للأطفال النازحين، توضح المعلمة لمياء أن الأطفال أصبحوا يبدأون حصصهم الدراسية بالحديث عن أخبار الصفقات والمساعدات، ويتأثرون بشدة بتغير الأخبار. تضيف: “حين يُستشهد أحد زملائهم، لا يقتصر الأمر على الحزن، بل يمتد إلى شعور عميق بأن لا أحد يهتم بهم. يقولون لي دائمًا: إحنا إلنا الله يا مس”.
ويُظهر هذا التشوّه الإدراكي لدى الأطفال جانبًا غائبًا في معظم التغطيات الإعلامية: أنهم لا يملكون أدوات تحليلية كافية تسمح لهم بالتمييز بين الحقيقة والدعاية أو التزييف. ولهذا، فإن أشكال التضليل التي يتعرضون لها تأخذ أبعادًا نفسية عميقة.
فلا يتمثل التضليل فقط في غياب المعلومات أو تزويرها، بل في الطريقة التي تُعرض بها أمام الطفل، ومن ذلك: تصوير الأطفال كأرقام دون ذكر قصصهم؛ بث أخبار متناقضة حول المساعدات والصفقة، ما يفقدهم الثقة بالواقع؛ عرض صور مؤلمة دون تفسير إنساني، ما يزرع الرعب بدلًا من الفهم؛ تكرار سرديات سياسية أمامهم بلغة لا تناسب إدراكهم؛ وأحيانًا حتى منشورات تشكك في وجعهم أو تُبرر العنف، فتربكهم وتولّد لديهم ارتباكًا داخليًا وشعورًا بالإقصاء.
هذه الممارسات لا تمر دون أثر، بل تُحدث اضطرابًا في السلوك والنوم والتفاعل الاجتماعي وحتى الهوية الذاتية. الطفل الذي يرى نفسه في الخبر دون رأي أو صوت أو كرامة، يصبح ضحية لواقع مزدوج: ألم الحرب وألم التجاهل الإعلامي.
من جهة أخرى، ترى الأخصائية النفسية د. نوال عسقول أن التضليل الإعلامي يسهم في خلق حالة من الانفصال النفسي بين الطفل وواقعه، حيث يبدأ الطفل بالتشكيك في مشاعره ومشاهداته. وتوضح عسقول أن الأطفال غالبًا ما يتبنون روايات مشوهة بسبب ضعف أدواتهم النقدية، ما يؤدي إلى اضطرابات مثل القلق والاكتئاب، وحالات من الحساسية المفرطة وفقدان الثقة بالمحيط. وتقول: “هذه الأعراض النفسية تمهد لاضطرابات خطيرة مثل الثنائية القطبية، وقد تؤدي إلى صدامات داخلية مؤلمة”.
ومع دخول التكنولوجيا إلى كل بيت، تحوّلت منصات التواصل من نافذة للتواصل إلى مساحة تنشر صورًا للأطفال دون سياق، وغالبًا ما تُظهرهم كأرقام أو ضحايا مجردين من صوتهم الحقيقي، مما يعزز شعورًا باللاواقعية والاغتراب الذهني لديهم.
ما تحتاجه الطفولة في غزة ليس محتوى يستدرج عطفًا عابرًا أو يطلب تفاعلًا لحظيًا، بل إعلامًا يرى الطفل ويسمعه، ويروي وجعه بمصداقية وإنسانية. فالطفولة الغزّية لا تحتاج إلى “ترند”، بل إلى صحوة ضمير، تكتب روايتهم وتُعيد بناء وعيهم بعيدًا عن السرديات القاسية التي تحاصر وجدانهم.