كتبت: حلا عيد
يحل الصباح بعد ليلة مليئة بالدموع وقرقعة الأمعاء من شدة الجوع، لتشق مريم طريقها في رحلة البحث عن شيء تُسكِت به جوع طفلها ودموعه بعد أن فقدت الأمل في الحصول على حليب له، تقول: (أصبح الحليب رفاهية بالنسبة لأطفالنا، طفلي لم يذق طعمه منذ أكثر من أسبوعين).
في ظل الحصار الخانق الذي يشهده قطاع غزة وشح الموارد الغذائية الأساسية ومن بينها حليب الأطفال، يواجه المواطنون أزمة كبيرة في توفير الحليب لأطفالهم الرُضع، وإن تواجد فهو بأسعار فلكية تزيد عن قدرة المواطن الشرائية بأضعاف مضاعفة. لذلك تلجأ كثير من الأمهات إلى استخدام بدائل آخرى لإسكات جوع أطفالهن قد تكون هذه البدائل غير صحية.
بدائل الحليب لأطفال رُضع
في واحد من مخيمات النزوح في مواصي خانيونس تسكن سارة أم لطفلين إحدهما لم يتجاوز شهره الخامس، تعاني سارة للحصول على حليب لإرضاع طفلها فلم يعد حليبها كافيا نظراً لسوء التغذية إثر المجاعة التي نعيشها، حيث أفادت منظمة الصحة العالمية (WHO):أن نسبة 90%من السيدات المرضعات والحوامل يعانين من سوء تغذية حاد.
تستبدل سارة الحليب بالأرز وتضعه في زجاجة الرضاعة محاولة إسكات جوع طفلها والحفاظ عليه من الجفاف، ما يسبب له إسهالا مستمرا وانتفاخات في البطن.
تقول: (مش لاقية حل تاني علبة الحليب ولو لقيتها سعرها 200شيكل من وين أجيب ؟).
تحول نقطة النجاة إلى معضلة
على سرير في المستشفى الكويتي الميداني يقف المواطن محمد حنيدق والد الطفل ياسر حنيدق بجوار طفله الذي يبلغ من العمر خمسة شهور .
يقول حنيدق: بسبب سوء التغذية جف حليب زوجتي فأصبحت لا تستطيع إرضاع الطفل بعد شهر وعشرة أيام من ولادته، لذلك لجأت للبحث عن بديل وهو الحليب الصناعي لكني لم أجد في السوق حليبا مخصصا للأطفال وبعد عناء كبير لم أجد سوى حليب الوكالة وهو لا يناسب الطفل في هذا العمر وسعره مرتفع جداً، أجبرت على شرائه لكي أسد جوع طفلي.
ويشير حنيدق أن الحليب منتهي الصلاحية منذ شهر يناير 2025 أي منذ شهور، يقول: (الحليب منتهي الصلاحية ولأني مجبر أعطيته لأبني عشان ما يموت من الجوع ).
ويوضح حنيدق أن نتيجة شرب الطفل للحليب غير المخصص له والمنتهي الصلاحية انتهى به بالطفل على سرير المشفى يعاني انتفاخات واستفراغ وإسهالا شديدا.
كما وتطور الأمر إلى حدوث إصابته بالجفاف وهو الآن بين الحياة والموت بسبب عدم توفر الحليب.
يوجه حنيدق نداء إلى منظمة الصحة العالمية وإلى جميع المنظمات الإنسانية أن تقدم الدعم اللازم للأطفال الرضع وأمهاتهم وأن تحاول إنقاذ ما تبقى من المجاعة الفاحشة التي ذهب ضحيتها الكثير من الرضع.
يقول: (أولادنا بتموت قدام عيونا ومش طالع بإيدنا نعمل شيء عشان الله حد يحلها يا عالم ).
انتصار الحصول على حليب يتحول لخيبة أمل
رسمت منال حمدان حياة وردية لطفليها القادمين، كانت تنتظرهم بفارغ الصبر، لكن الظروف كانت أقوى من كُل شيء، تحولت أحلامها الوردية إلى رحلة معاناة في ظل الحصار الخانق وإنعدام سُبل الحياة.
تقول حمدان: “كان لدي أمل بإنتهاء الحرب قبل قدوم موعد ولادتي لكن الأمور أصبحت تزداد صعوبة،
عانيت كثيرا من ألم الحمل، لكن كانت صورة أطفالي التي أرسمها لهم في مُخيلتي تُهون على قلبي الألم.
كان حملي صعباً، عانيت من سوء التغذية في ظل غياب الطعام الجيد، تناولت المعلبات بدلاً من تناول الأطعمة الغنية بالعناصر الغذائية.
حان موعد ولادتي كنت أرتجف خوفاً، ولادة مبكرة قيصيرية في ظروف صعبة وقلة الخدمات الطبية أيضاً.
مكث أطفالي في الحضانة لأيام لأن حالتهم الصحية لم تكُن جيدة ومع خروجهم كنت أتخيل أن نهاية الألم جاءت، لكن لم أُدرك أن القادم أكثر صعوبة”.
أيام قليلة وبدأت رحلة النزوح القسري نحو المجهول، تقول: أطفالي الذين رسمت لهم أياما وردية، الأن أمكث أنا وإياهم في خيمة نعاني أشد المعاناة، يوما بعد يوم يكبرون أمامي ولكنهم لم يحظوا بيوم كريم واحد.
وتضيف: تفاقمت معاناتي حتى أنها باتت تخنقني كإمرأة مرضعة أحاول إيجاد أي طعام يحتوي على فائدة لكي أُرضع أطفالي لكن في ظل المجاعة الفاحشة التي نعيشها أصبح رغيف الخبز حُلماً.
وتتابع حمدان: منذ أسبوع أبحث عن علبة حليب لأطفالي أتلفت هنُا وهناك اسأل هذا وذاك لعل أحداً يدُلني، ولكن دون جدوى.
الحليب شحيح وسعره تجاوز سعره في السابق عشر أضعاف، أتحمل الضغوطات في سبيل توفير الحليب لأطفالي، وزوجي يذهب من الجنوب إلى الشمال باحثا عن علبة حليب لنسد جوع أطفالنا وما إن حالفنا الحظ ووجدنا شعرت بقلبي ينبض من جديد، شعرت بانتصار كبير، احتضنت كيس الحليب الذي كلفني الحصول عليه ويلاً كبيراً، جارية إلى خيمتي (الفرحة مش سيعاني حاسة بانتصار كبير ).
تتابع حمدان: إلا أن فرحتي تحولت إلى خيبة أمل، ما إن فتحت الكيس وجدته يحتوي على الديدان والسوس متشابكة مع الحليب، كاد قلبي يتوقف من المشهد.
أسبوع من البحث المتواصل ليلا نهارا، عبء السيولة والحصول على الكاش لشراء هذا الكيس وفي نهاية المطاف أجده فاسدا.
وفي زاوية آخرى تحت سماء غزة يروي المواطن معتصم وشاح معاناته المستمرة في الحصول على الحليب لإطعام ابنه.
حيث أشار وشاح أنه يبحث منذ أكثر من أسبوع عن حليب، وما إن وجد علبة حليب بسعر فلكي، كانت منتهية الصلاحية، لكنه أجبر على إطعام ابنه الذي يبلغ من العمر شهر وأسبوع من هذا الحليب، لعدم توفر البديل وكي لا يموت جوعا.
ويوضح وشاح أنه لم يستطع شراء علبة كاملة من الحليب بل نصف علبة (نصف علبة حليب فاسد ب 400شيكل أي ما يزيد عن 100$).
أُرغم وشاح على إعطاء الحليب لإبنه إلا أن الطفل لم يتقبل الحليب وكيف له ان يتقبل حليبا فاسدا يسد به جوعه
ويقول وشاح: يبكي طفلي طوال الليل وأبكي بجانبه عاجزا عن تقديم أي شيء له.
ويناشد الضمائر الحية والمنظمات الإنسانية بالتدخل العاجل لوقف هذه الإبادة.
من جهته يتحدث الدكتور (محمد العفيفي ) رئيس قسم الأطفال في المستشفى الجزائري عن الوضع الصحي للُرضع في قطاع غزة في ظل نقص الغذاء والحليب، يقول: أكثر من 90% من الرُضع لا يجدون حليباً لرضاعتهم إضافة لضعف رضاعتهم الطبيعية بسب سوء التغذية العامة للنساء والأمهات المُرضعات بشكل خاص.
ويقول العفيفي إن أكثر الأمراض والمضاعفات الشائعة بين الرُضع بسبب المجاعة هي سوء التغذية ( بنوعيه الحاد والمزمن)، والجفاف، وضعف المناعة، بالإضافة إلى الإسهالات وإلتهابات الجهاز التنفسي وقد تصل هذه المضاعفات إلى الوفاة أحيانا.
ويشير العفيفي أن نسبة سوء التغذية الحاد بين الرُضع في تزايد، وأن الأطفال الأكثر تضرراً هم المواليد الخداج (عمر الحمل أقل من 9 شهور) والمواليد (حديثو الولادة وأعمارهم أقل من شهر) والرضع الذين لا تزيد أعمارهم عن 4 شهور، بالإضافة إلى الرُضع الذين يعانون من مشاكل أو أمراض خَلقية سواء في القلب أو الرئتين أو الشفة الأرنبية أو أمراض نقص السكري بمختلف أنواعها.
ويضيف أن هناك نقصا تاما في حليب الأطفال الصناعي والأغذية العلاجية الخاصة بالرضع تفوق نسبة %90
ويؤدي عدم توفر الحليب بشكل أساسي إلى مضاعفات عدة، أهمها: (الجفاف وسوء التغذية )وقد تصل بهم أحياناً إلى الوفاة .
ويلجأ الأهالي إلى استبدال الحليب بالماء أو الأعشاب (اليانسون ) أو(حليب المؤن) وهو أيضاً غير مخصص للأطفال الرُضع.
ويوضح العفيفي أن هناك عددا من الأعراض تظهر على الطفل الذي لا يحصل على حاجته من الحليب والتغذية الكافية منها: كثرة البكاء الشديد، علامات الجفاف، تسارع دقات القلب، سوء التنفس، انخفاض ضغط الدم، قلة البول وتغير لون البول إلى الغامق أوحتى قريب من لون الدم وانخفاض معدل السكر في الدم وغيرها من الأعراض.
ويقول العفيفي إن الضغط النفسي وسوء التغذية تؤثر على إنتاج حليب الأم حيث يؤثر على إفراز الهرمونات وعلى الغدة (الصنوبرية ) في الدماغ مما يسبب ضعفا في إفراز هرمون البرولاكتين المسؤول عن تكون وإفراز الحليب مما يسبب قلة إفراز الحليب.
ويؤكد على أهمية توفير تغذية صحية مناسبة للأمهات المرضعات من حيث توفير اللحوم والدواجن ومختلف أنواع الأسماك بالإضافة إلى الخضروات الطازجة والفواكه.
وأهمية توفير الحليب المناسب نوعاً وكماً لعمر وحالة الأطفال الرُضع مع توفير الغذاء المناسب ونوعيته المناسبة لعمر وحالة الطفل.
وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية ومنظمات الأمم المتحدة فإن حوالي 100.000 إمراة وطفل يعانون من سوء تغذية حاد تتراوح بين معتدلة وشديدة، وتتركز المعاناة على الأطفال دون سن الخامسة منهم الرُضع الذين يمثلون جزءاً كبيراً من هذه الفئات، كما تشير التقارير إلى وفاة 21 طفلاً على الأقل دون سن الخامسة بسب سوء التغذية.
ويوجه العفيفي رسالة للعالم أن عليهم أن يتحركوا بشكل أقوى وأسرع لوقف الحرب الشرسة، وفتح المعابر والإسراع في إدخال وتوفير التغذية المناسبة للأمهات ولأطفالهن الرُضع بكميات تتناسب مع الحالة الواقعية لسوء التغذية في قطاع غزة والتحرك الفعلي من أجل وقف المجاعة التي تفتك بالسكان في القطاع .